متى يستقيم الإنسان وآليات الاستقامة أمام بصره وبصيرته؟ ألم يقرأ القرآن أو يسمعه يقول "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" "الأحقاف آية 13" وفى الحديث النبوى "قل آمنت بالله ثم استقم" كذلك "حيثما تستقم يقدّر لك النجاح". لقد أكرم الله الإنسان، فأنعم عليه، وهداه إلى صراطه المستقيم، ورضى له الإسلام دينا، فكان دين الاعتدال والتوسط فى كل شيء، لا يرضى بالإفراط والمبالغة عند الإقبال على الشيء، ولا يقبل التفريط والترك والرفض لما فى الوجود.
وإنما يربى متبعيه على هذا الاعتدال فى مطالب الحياة، لا غلو ولا تطرف، ولا تسيب ولا تحلل، فهو يحارب الإسراف والتبذير والشح والتقتير، ويحرض على كسب المال فى حدود ما أحل الله فى كتابه، وعلى حسن التصرف فيه، لتقضى به الحقوق وتؤدى الواجبات، وتصان الحرمات.
إذا كان لمال الغير حرمة تمنع من التعدى عليه خفية أو جهارا، فإن لمال الإنسان نفسه حرمة أيضا بالنسبة لصاحبه تمنعه أن يضيعه أو يسرف فيه أو يبعثره ذات اليمين وذات الشمال، ذلك أن للأمة حقا فى مال الأشخاص، فالإسلام دين القسط والاعتدال وأمة الإسلام أمة وسط، والمسلم عدل فى كل أموره.
ومن هنا نهى الله المؤمنين عن الإسراف والتبذير كما نهاهم عن الشح والتقتير، قال تعالى "يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" "الأعراف آية 31" والإسراف هو إنفاق المال وتبذيره فى غير موضعه، إذ ينفق فى المعاصى وفيما حرم الله، أو يضاع ويتلف فى غير محله على الإنسان نفسه أو على الناس، لذلك جعل الإسلام للأمة الحق فى الحجر على غير القادر عن التصرف الحكيم كالصغير والمجنون إذ يقول القرآن "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قيما، وارزقوهم فيها، واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا" "النساء آية 5".
فالله يخاطب الأمة، مع أنها فى ظاهر الأمر أموالهم، ولكن مال كل فرد فى الحقيقة هو مال لأمته جمعاء، كما أن الإسلام يدعو إلى الاقتصاد فى الإنفاق من غير بخل ولا إسراف "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" "الفرقان آية 67".
فالمسلم الصادق لا يحرم النعمة واللذة، ولا ينفق المال بسرف وتبذير، لأن التبذير حليف الشهوة، فإذا قادت الفرد شهواته كان مسرفا مبذرا لأن الشهوة لا تقف عند حد، ولا يشبعها ما يقدم لها، بل كلما زدت فى إرضائها زادت انطلاقا وشراهة ونهما، فيشقى الإنسان ويزداد عذابه، بمقدار ما يظن أنه يوفر سعادته، ويتضرر جسمه من الإسراف، فتسوء صحته.
ومن مظاهر الإسراف، أن يغالى الرجل فى استعمال سلطته مع أبنائه، بمحاسبتهم على كل صغيرة وكبيرة فيقسو فى المعاملة ويشدد فى العقوبة، ولا يسمح لنفسه بالمزح مع صبيانه أو يعامل زوجته بفظاظة وغلظة وعنف وقوة أمام أبنائه وذويه فتتولد من هذا الإسراف الجفوة والكراهية، وربما يحصد هذا المسرف وقت ضعفه العزلة وغياب أسرته عنه، وبمثل هذا المثال فى علاقة المعلم بتلميذه، والتاجر أو الصانع بمن يعمل تحت إمرتهما، وصاحب المؤسسة بموظفيها ,,
أما الذين يبذرون أموالهم لإشباع شهواتهم، ويفقدون كل تحكم فى رغباتهم فالقرآن جعل الصلة بينهم وبين الشياطين صلة أخوة "إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا" "الإسراء آية 27" فالشيطان يدخل من مداخل الهوى والهوى لا يتحقق إلا بالإنفاق الواسع، والتبذير فى سبيل مطالب النفس ومراتع اللذة لا تستباح إلا بالمال، ولا يدخلها الغاوى إلا بالتبذير والإسراف، لذلك توعد الله المبذرين بأنه يحرمهم هدايته "إن الله لا يهدى من هو مسرف كذّاب" "غافر آية 28" وكتب عليه الضلالة "كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب" "غافر آية 34" وتوعدهم بأن مصيرهم إلى النار "وأن المسرفين هم أصحاب النار" "غافر آية 43".
فالإسراف يكون كما ذكرت فى كل شيء، فى العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والحيوان وبين الإنسان وسائر الكائنات، ويكون التبذير أيضا فى إقامة مآدب، بمناسبات مفرحة أو محزنة، بينما الإسلام ينهى حتى عن المبالغة فى صبّ الماء أثناء الوضوء، ويعتبره إسرافا منهيا عنه ولو كان المتوضئ يأخذ الماء من نهر يفيض ماء أمامه، والمبالغة فى تبذير المال والإسراف فى إنفاقه، أو المبالغة فى استهلاك الطاقة، سواء كانت كهربائية، أو بترولية، أو أى طاقة من الطاقات الطبيعية، لا يسمح به الإسلام لأنه يلحق الضرر بالمسرف أو المبذر، وبأمته ومجتمعه، ولا ننسى أن المال زينة الحياة وأنه محبوب ومطلوب فعلينا أن نحسن التصرف فى إنفاقه وأن يكون كل مسلم حكيما متدبرا، لا تغريه وسوسة الشيطان ولا تستولى عليه شهواته النهمة، حتى لا يحتاج إلى أحد، ولا يذل نفسه لسواه فإذا عادل بين الدخل والخرج، وتوسط فى النفقة والبذل، استطاع أن يوفر لنفسه وأهله ولو نزرا قليلا يكون ذخيرة له وقت الحاجة ويدفع به المصائب الطارئة فقد قيل
"كل النداء إذا ناديت يخذلني إلا ندائى إذا ناديت يا مالي".
فالتحكم فى مصاريف العيش، وفى استهلاك الطاقة، وفى كل مطلب من مطالب الحياة، يوفر للإنسان ادخارا ماليا يجده خير معين، وأعز رفيق، وأحفظ شرطي، وأشجع جندى وقت الشدة، كما يكون خير مزود للمؤسسة سواء كانت تجارية، أو صناعية أو لخدمات، على تسديد حاجياتها، وتحسين مردودها، والحفاظ على سلامتها.
ولا ينسى الإنسان أن المال هو زينة الحياة الدنيا ونعمة الله على عباده، قد ينقلب شرا مستطيرا يحطم السعادة فى الدنيا، ويعد للهلكة فى الآخرة، إن لم يلتزم المرء بشريعة الله لأن المال يمنحه الله للبارّ والفاجر، والخيّر والشرير، ولمن كتبت له السعادة، ولمن كتب له الشقاء قصد الاختبار والامتحان لتمييز الطيب من الخبيث. لذلك يدعو الإسلام إلى الإقبال على اكتساب المال فى غير شره ولا نهم، لأنه خير ورزق من عند الله يبسطه لمن يشاء من عباده والواجب الالتزام بشرع الله المعتدل بالاستقامة